فصل: تفسير الآيات (11- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (11- 21):

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب: فعل فلان كذا. ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه أنه قال: أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكونهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأنه قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك وائتي يا سماء مقبية سقفاً لهم. ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضياً، وقوله {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} لبيان تأثير قدرته فيهما وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك. لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون لأنهن لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره. قيل: طائعين في موضع طائعات كقوله {ساجدين} [يوسف: 4]. {فَقَضَاهُنَّ} فأحكم خلقهن. قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما

والضمير يرجع إلى السماء لأن السماء للجنس، ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بقوله {سَبْعَ سماوات}.
والفرق بين النصبين في {سَبْعَ سموات} أن الأول على الحال والثاني على التمييز {فِى يَوْمَيْنِ} في يوم الخميس والجمعة {وأوحى في كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيران وغير ذلك {وَزَيَّنَّآ السمآء الدنيا} القريبة من الأرض {بمصابيح} بكواكب {وَحِفْظاً} وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظاً {ذلك تَقْدِيرُ العزيز} الغالب غير المغلوب {العليم} بمواقع الأمور.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإيمان بعد هذا البيان {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} خوفتكم {صاعقة} عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة وأصلها رعد معه نار {مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي أتوهم من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض.
وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة {أَن} بمعنى (أي) أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه {لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله قَالُواْ} أي القوم {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا} إرسال الرسل فمفعول {شَاء} محذوف {لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقوله {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ليس بإقرار بالإرسال وإنما هو على كلام الرسل وفيه تهكم كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وقولهم: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون}. خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. رُوي أن قريشاً بعثوا عتبة بن ربيعة وكان أحسنهم حديثاً ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر ما يريد، فأتاه وهو في الحطيم فلم يسأل شيئاً إلا أجابه ثم قرأ عليه السلام السورة إلى قوله {مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} فناشده بالرحم وأمسك على فيه ووثب مخافة أن يصب عليهم العذاب فأخبرهم به وقال: لقد عرفت السحر والشعر فوالله ما هو بساحر ولا بشاعر فقالوا: لقد صبأت أما فهمت منه كلمة؟ فقال: لا ولم أهتد إلى جوابه. فقال عثمان بن مظعون: ذلك والله لتعلموا أنه من رب العالمين.
ثم بين ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوة وعظم الأجرام، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أولم يعلموا علماً يقوم مقام العيان {أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كل شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره {وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} معطوف على {فاستكبروا} أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} عاصفة تصرصر أي تصوت في هبوبها من الصرير، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصر وهو البرد قيل إنها الدبور {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشئؤومات عليهم. {نَّحِسَاتٍ} مكي وبصري ونافع. ونُحِس نحساً نقيض سعد سعداً وهو نحس، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء، وما عذب قوم إلا في الأربعاء. {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا} أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل على أنه وصف للعذاب كأنه قال عذاب خزي كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيء، ويدل عليه قوله {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به فشتان ما بين قوليك (هو شاعر) و(له شعر شاعر). {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم.

.تفسير الآيات (22- 32):

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}
{وَأَمَّا ثَمُودُ} بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر {فهديناهم} وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره {فهديناهم} أي بينا لهم الرشد {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب} داهية العذاب {الهون} الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم، وقال الشيخ أبو منصور: يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير. وقال صاحب الكشاف فيه: فإن قلت: أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد {وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ} أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} اختيار العمى على الهدى.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} أي الكفار من الأولين والآخرين. {نَحْشُرُ أَعْدَاءَ} نافع ويعقوب {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا} صاروا بحضرتها و{ما} مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل: وهي كناية عن الفروج {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} لما تعاظمهم من شهادتها عليهم {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَئ} من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وذلك الظن هو الذي أهلككم، و{ذلكم} مبتدأ و{ظَنُّكُمُ} خبر و{الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ} صفته و{أَرْدَاكُمْ} خبر ثانٍ أو {ظَنُّكُمُ} بدل من {ذلكم} و{أَرْدَاكُمْ} الخبر {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين، أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} أي قدرنا لمشركي مكة، يقال: هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة، وقيل: سلطنا عليهم {قُرَنَآءَ} أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} كلمة العذاب {فِى أُمَمٍ} في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمْ} أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} قبل أهل مكة {مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان} إذًّا قريء {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر.
{ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة {النار} عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول: لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها {جَزَآءً} أي جوزوا بذلك جزاء {بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا} وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخْذِ فَخْذ: مكي وشامي وأبو بكر. وبالاختلاس: أبوعمرو {اللذين أضلانا} أي الشيطانين اللذين أضلانا {مِّنَ الجن والإنس} لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن} {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} في النار جزاء إضلالهم إيانا.
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله} أي نطقوا بالتوحيد {ثُمَّ استقاموا} ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه، وعن الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً: وعنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: حملتم الأمر على أشده. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل. وعن علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض. وعن الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقيل: حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} عند الموت {أن} بمعنى (أي) أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه {لاَ تَخَافُواْ} والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا، وقال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ في الحياة الدنيا وَفِى الآخرة} كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من النعيم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} تتمنون {نُزُلاً} هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من (ما) {مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} نعت له.

.تفسير الآيات (33- 46):

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} إلى عبادته هو رسول الله دعا إلى التوحيد {وَعَمِلَ صالحا} خالصاً {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} تفاخراً بالإسلام ومعتقداً له، أو أصحابه عليه السلام، أو المؤذنون، أو جميع الهداة والدعاة إلى الله. {وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} يعني أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك كما لو أساء إليك رجل إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك مثل أن يذمك فتمدحه أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال: {وَمَا يُلَقَّاهَآ} أي وما يلقي هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} إلا أهل الصبر {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} إلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. وإنما لم يقل (فادفع بالتي هي أحسن) لأنه على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} وقيل: (لا) مزيدة للتأكيد والمعنى: لا تستوي الحسنة والسيئة، وكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة، ولكن وضع {التى هي أَحْسَنُ} موضع {الحسنة} ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: بالتي هي أحسن: الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وفسر الحظ بالثواب، وعن الحسن: والله ما عظم حظ دون الجنة، وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار ولياً مصافياً {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده، أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو لتسويله، والمعنى وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن {فاستعذ بالله} من شره وامض على حلمك ولا تطعه {إِنَّهُ هُوَ السميع} لاستعاذتك {العليم} بنزغ الشيطان.
{وَمِنْ ءاياته} الدالة على وحدانيته {الليل والنهار} في تعاقبهما على حد معلوم وتناوبهما على قدر مقسوم {والشمس والقمر} في اختصاصهما بسير مقدور ونور مقرر {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} فإنهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الضمير في {خَلَقَهُنَّ} للآيات أو الليل والنهار والشمس والقمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، تقول: الأقلام بريتها وبريتهن، ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى، فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين، فإن من عبد مع الله غيره لا يكون عابداً لله.
{فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ} أي الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} لا يملون. والمعنى فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً، فدعهم وشأنهم فإن الله تعالى لا يعدم عابد أو ساجد بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد. و{عِندَ رَبّكَ} عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وموضع السجدة عندنا {لاَ يَسْئَمُونَ} وعند الشافعي رحمه الله عند {تَعْبُدُونَ} والأول أحوط.
{وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة} يابسة مغبرة والخشوع التذلل فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء} المطر {اهتزت} تحركت بالنبات {وَرَبَتْ} انتفخت {إِنَّ الذي أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} فيكون قادراً على البعث ضرورة {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في ءاياتنا} يميلون عن الحق في أدلتنا بالطعن، يقال: ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. {يُلْتحِدُونَ} حمزة {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} وعيد لهم على التحريف {أَفَمَن يلقى في النار خَيْرٌ أم مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ القيامة} هذا تمثيل للكافر والمؤمن {اعملوا مَا شِئْتُمْ} هذا نهاية في التهديد ومبالغة في الوعيد {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} بالقرآن لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله {لَمَّا جَآءَهُمْ} حين جاءهم. وخبر {إن} محذوف أي يعذبون أو هالكون أو {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وما بينهما اعتراض {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} أي منيع محمي بحماية الله {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} التبديل أو التناقض {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أي بوجه من الوجوه {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} مستحق للحمد.
{مَّا يُقَالُ لَكَ} ما يقول لك كفار قومك {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} ورحمة لأنبيائه {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم، ويجوز أن يكون ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول هو قوله {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}.
{وَلَوْ جعلناه} أي الذكر {قُرْءَاناً أَعْجَمِيَّاً} أي بلغة العجم كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم فقيل في جوابهم: لو كان كما يقترحون {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته} أي بينت بلسان العرب حتى نفهمها تعنتاً {ءَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} بهمزتين كوفي غير حفص، والهمزة للإنكار يعني لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي. الباقون بهمزة واحدة ممدودة مستفهمة. والأعجمي الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه سواء كان من العجم أو العرب، والعجمي منسوب إلى أمة العجم فصيحاً كان أو غير فصيح، والمعنى أن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً لأنهم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم، وفيه إشارة إلى أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآناً فيكون دليلاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية. {قُلْ هُوَ} أي القرآن {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى} إرشاد إلى الحق {وَشِفَاءٌ} لما في الصدور من الشك إذ الشك مرض {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ} في موضع الجر لكونه معطوفاً على {الذين آمَنْوا} أي هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر أي صمم إلا أن فيه عطفاً على عاملين وهو جائز عند الأخفش، أو الرفع وتقديره والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ أو في آذانهم منه وقر {وَهُوَ} أي القرآن {عَلَيْهِمْ عَمًى} ظلمة وشبهة {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يعني أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة. وقيل: ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء. {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} فقال بعضهم: هو حق. وقال بعضهم: هو باطل كما اختلف قومك في كتابك {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأهلكهم إهلاك استئصال. وقيل: الكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وأن الخصومات تفصل في ذلك اليوم ولولا ذلك لقضي بينهم في الدنيا {وإِنَّهُمْ} وإن الكفار {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} موقع في الريبة {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ} فنفسه نفع {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} فنفسه ضر {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} فيعذب غير المسيء.